الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو حيان: {ووصينا الإنسان بوالديه} أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما.وانتصب {حسنًا} على أنه مصدر، وصف به مصدر وصينا، أي إيصاء حسنًا، أي ذا حسن، أو على سبيل المبالغة، أي هو في ذاته حسن.قال ابن عطية: يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تحريض على كونه عامًا لمعان.كما تقول: وصيتك خيرًا، وأوصيتك شرًا؛ وعبَّر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك دون حرف الجر، كون حرف الجر في قوله: {بوالديه} لأن المعنى: ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده، ونظير هذا قول الشاعر:انتهى.مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة: وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير، وهو المفعول الثاني.والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير.قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله: {بوالديه} وينتصب {حسنًا} بفعل مضمر تقديره: يحسن حسنًا، وينتصب انتصاب المصدر.وفي التحرير: حسنًا نصب عند البصريين على التكرير، أي وصيناه حسنًا، وقيل: على القطع، تقديره: ووصينا بالحسن، كما تقول: وصيته خيرًا، أي بالخير، ويعني بالقطع عن حرف الجر، فانتصب.وقال أهل الكوفة: ووصينا الإنسان أن يفعل حسنًا، فيقدر له فعل. انتهى.وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول، وهو لا يجوز عند البصريين.وقال الزمخشري: وصيناه بايتاء والديه حسنًا، أو نائلًا والديه حسنًا، أي فعلًا ذا حسن، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله: {وقولوا للناس حسنًا} انتهى.وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفًا وإبقاء معموله، وهو لا يجوز عند البصريين.قال الزمخشري: ويجوز أن يجعل حسنًا من باب قولك: زيدًا، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب، فتنصبه بإضمار أولهما، أو افعل بهما، لأن الوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، فكأنه قال: قلنا أولهما معروفًا.وقرأ عيسى، والجحدري: حسنًا، بفتحتين؛ والجمهور: بضم الحاء وإسكان السين، وهما كالبَخَل والبُخْل.وقال أبو الفضل الرازي: وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة، لأنها قد أخذت مفعوليها معًا مطلقًا ومجرورًا، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى: أمر حسن.انتهى، أي أمرًا حسنًا، حذف أمرًا وأقيم حسن مقامه.وقوله: مطلقًا، عنى به الإنسان، وفيه تسامح، بل هو مفعول به؛ والمطلق إنما هو المصدر، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر، بخلاف سائر المفاعيل، فإنك تقول: مفعول به، ومفعول فيه، ومفعول معه، ومفعول له؛ وفي مصحف أبي: إحسانًا.{وإن جاهداك} أي وقلنا: إن جاهداك {ما ليس لك به علم} أي بإلهيته، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم، أي {لتشرك} به شيئًا، لا يصح أن يكون إلهًا ولا يستقيم، {فلا تطعهما} فيما جاهداك عليه من الإشراك؛ {إليّ مرجعكم} شامل للموصي والموصى والمجاهد والمجاهد، {فأنبئكم} فأجازيكم، {بماكنتم تعملون} من بر، أو عقوق، أو طاعة، أو عصيان.وكرر تعالى ما رتب للمؤمنين من دخولهم {في الصالحين} ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم.ومعنى {في الصالحين} في جملتهم، ومرتبة الصلاح شريفة، أخبر الله بها عن إبراهيم، وسألها سليمان، عليهما السلام، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع الله ورسوله معهم.ويجوز أن يكون التقدير: في ثواب الصالحين، وهي الجنة. اهـ. .قال أبو السعود: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} أي بإتياء والديهِ وإيلائهما فعلًا ذا حُسنٍ أو ما هو في حدِّ ذاته حسنٌ لفرطِ حُسنِه كقولِه تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ووصَّى يجري مجرى أمرَ معنى وتصرُّفًا غيرَ أنَّه يُستعمل فيما كان في المأمورِ به نفعٌ عائدٌ إلى المأمورِ أو غيرِه. وقيل هُو بمعنى قال فالمعنى وقلنا أحسِنْ بوالديك حُسنا. وقيل: انتصابُ حُسنا بمضمرٍ على تقدير قولٍ مفسِّرٍ للتَّوصيةِ أي وقُلنا أوْلِهما أو افعلْ بهما حُسنا وهو أوفق لما بعدَه وعليه يحسنُ الوقفُ على بوالديهِ وقرىء حسنًا وإحسانًا. {وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي بالهيئةِ عبَّر عن نفيها بنفيِ العلمِ بها للإيذان بأنَّ ما لا يعلم صحته لا يجوزُ اتِّباعُه وإنْ لم يُعلم بطلانُه فكيف بما عُلم بطلانُه {فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك فإنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ ولابد من إضمارِ القولِ إن لم يُضمر فيما قبل. وفي تعليقِ النَّهي عن طاعتِهما بمجاهدتِهما في التَّكليف إشعارٌ بأنَّ موجبَ النَّهي فيما دونها من التَّكليفِ ثابت بطريقِ الأولويَّةِ. {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُ مَن آمن منكُم ومَن أشركَ ومن برَّ بوالديِه ومن عقَّ {فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بأنْ أجازيَ كلاَّ منكم بعملِه إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرَّا فشرٌّ. والآيةُ نزلتْ في سعدٍ بن أبي وقَّاص رضي الله تعالى عنه عند إسلامِه حيثُ حلفت أمُّه حمنهُ بنتُ أبي سفيانَ بنِ أُميَّة أن لا تنتقلَ من الضحِّ إلى الظلِّ ولا تَطعمُ ولا تشربُ حتَّى يرتدَّ فلبثتْ ثلاثةَ أيامٍ كذلك، وكذا التي في سُورة لقمانَ وسورةِ الأحقافِ. وقيل: نزلتْ في عيَّاش بن أبي ربيعة المخزُومي وذلك أنه هاجر مع عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه حتَّى نزلا المدينةَ فخرجَ أبوُ جهلٍ والحارث أخواه لأمِّه أسماء فنزلا بعيَّاش وقالا له إن من دين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم صلةَ الأرحامِ وبرَّ الوالدينِ وقد تركتَ أمَّك لا تطعمُ ولا تشربُ ولا تأوي بيتًا حتَّى تراك فاخرجْ معنا وفتلا منه في الذِّروة والغاربِ واستشار عمرَ رضي الله عنه فقال هُما يخدعانِك ولك على أنْ أقسمَ مالي بيني وبينك فما زالا به حتَّى أطاعهما وعصى عمرَ رضي الله عنه فقال عمرُ رضي الله عنه: أمَّا إذا عصيتني فخُذْ ناقتي فليس في الدُّنيا بعيرٌ بلحقها فإنْ رابك منهما ريبٌ فارجع فلمَّا انتهَوا إلى البيداءِ قال أبوُ جهل إنُّ ناقتي كلَّت فاحملني معك فنزل ليوطىءَ لنفسِه وله فأخذاه فشدَّاه وثاقًا وجلده كلُّ واحدٍ مائةَ جلدةٍ وذهبا به إلى أمِّه فقالت لا تزالُ في عذاب حتَّى ترجعَ عن دينِ محمَّدٍ.{والذين ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصالحين} أي في زُمرةِ الرَّاسخينَ في الصَّلاحَ. والكمالُ في الصَّلاحِ مِنتهى درجاتِ المؤمنينَ وغايةُ مأمولِ أنبياءِ الله المُرسلين. قال الله تعالى حكايةً عن سُليمانَ عليه السَّلام: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} وقال في حقِّ إبراهيمَ عليه السَّلام: {وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين} أو في مدخلِ الصَّالحين وهو الجنَّة. اهـ..قال الألوسي: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما، وانتصب حسنًا على أنه وصف لمصدر محذوف أي إيصاء حسنًا أي ذا حسن أو هو في حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] وهذا ما اختاره أبو حيان ولا يخلو عن حسن، وقال الزمخشري حسنًا مفعول به لمصدر محذوف مضاف إلى والديه أي وصيناه بإيتاء والديه أو بإيلاء والديه حسنًا، وفيه إعمال المصدر محذوفًا وإبقاء عمله وهو لا يجوز عند البصريين، وجوز أن يكون حسنًا مصدرًا لفعل محذوف أي أحسن حسنًا، والجملة في موضع المفعول لوصي لتضمنه معنى القول، وهذا على مذهب الكوفيين القائلين بأن ما يتضمن معنى القول يجوز أن يعمل في الجمل من غير تقدير للقول، وعند البصريين يقدر القول في مثل ذلك وعليه يجوز أن يكون مفعولًا به لفعل محذوف والجملة مقول القول وجملة القول مفسرة للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حسنًا، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه لاستئناف الجملة بعده، ورجح تقدير الأمر بأنه أوفق لما بعده من الخطاب والنهي الذي هو أخوه لكن ضعف ما فيه كثرة تقدير بكثرة التقدير، ونقل ابن عطية عن الكوفيين أنهم يجعلون حسنًا مفعولًا لفعل محذوف ويقدرون أن يفعل حسنًا، وفيه حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول وهو لا يجوز عند البصريين، وقيل: إن حسنًا منصوب بنزع الخافض وبوالديه متعلق بوصينا والباء فيه بمعنى في أي وصينا الإنسان في أمر والديه بحسن وهو كما ترى، وقرأ عيسى والجحدري {حَسَنًا} بفتحتين وفي مصحف أبي إحسانًا {وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} عطف على ما قبله ولابد من إضمار القول إن لم يضمر قبل أي وقلنا: إن جاهداك الخ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر لأن الجملة الشرطية إذ كان جوابها إنشاء فهي إنشائية كما صرحوا به فإذا لم يضمر القول لا يليق عطفها على وصينا لما ذكر ولا على ما عمل فيه لكونه في معنى القول وهو أحسن وإن توافقًا في الإنشائية لأنه ليس من الوصية بالوالدين لأنه منه يعن مطاوعتهما، وأما عطفه على قلنا المفسر للتوصية فلا يضر لما فيه من تقييدها بعدم الإفضاء إلى المعصية مآلًا فكأنه قيل: أحسن إليهما وأطعهما ما لم يأمراك بمعصية فتأمل، والظاهر الذي يقتضيه المقام أن {مَا} عام لما سواه تعالى شأنه وقوله سبحانه: {بِهِ} على حذف مضاف أي ما ليس لك بإلهيته علم، وتنكير علم للتحقير والمراد لتشرك بي شيئًا لا يصح أن يكون إلهًا ولا يستقيم، وفي العدول عنه إلى ما في النظم الجليل إيذان بأن ما لا يعلم صحته ولو إجمالًا كما في التقليد لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم على أتم وجه بطلانه، وجعل العلامة الطيبي نفي العلم كناية عن نفي المعلوم، وعلل ذلك بأن هذا الأسلوب يستعمل غالبًا في حق الله تعالى نحو أتعلمون الله بما لا يعلم ثم قال: وفيه إشارة إلى أن نفي الشرك من العلوم الضرورية وأن الفطرة السليمة مجبولة عليه على ما ورد: «كل مولود يولد على الفطرة» وذلك أن المخاطب بقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان} جنس الإنسان انتهى، وفيه بحث.ومتعلق {تطعهما} محذوف لوضوح دلالة الكلام عليه أي وإن استفرغا جهدهما في تكليفك لتشرك بي غيري مما لا إلهية له فلا تطعهما في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وفي تعليق النهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكليف إشعار بأن موجب النهي فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية وكذا موجبه في مجاهدة أحدهما {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر ومن عق والجملة مقررة لما قبلها ولذا لم تعطف {فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بأن أجازي كلًا منكم بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه رضي الله تعالى عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس: يا سعد بلغني أنك صبأت فوالله تعالى لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وأن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.وروى أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما متوافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جعل بن هشام والحرث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوى بيتًا حتى تراك وهي أشد حبًا لك منا فأخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال هما يخدعانك ولك على أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهم ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك، قال: نعم فنزل ليوطىء لنفسه وله فأخذاه فشداه وثاقًا وجلده كل واحد مائة جلدة وذهبا به إلى أمه، فقالت: لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم فنزلت.{والذين ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصالحين} أي في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه، والصلاح ضد الفساد وهو جامع لكل خير، وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، ولذا طلبها الأنبياء عليهم السلام كما قال سليمان عليه السلام {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] ويحامل أن يكن الكلام بتقدير مضاف أي في مدخل الصالحين وهي الجنة، والموصول مبتدأ ولندخلنهم الخبر على ما ذكره أبو البقاء، وجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير لندخلن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم. اهـ.
|